عرض/ سكينة بوشلوحيجزم
الكثيرون أن الحرب ولدت مع الإنسان وأن لها كل الحظوظ أن لا تموت إلا معه، لأن عوامل ضبط الحرب أو منع حدوثها لم تفد كثيرا, بل ازدادت الحروب انفجارا وانتشارا تحت مبررات موضوعية أو واهية, والواقع يثبت ذلك.لذا حاول الدكتور محمد بوعشة الأستاذ بجامعة الجزائر تسليط الضوء على العامل السيكولوجي ضمن دائرة المؤثرات التي تتشكل من خلالها الظواهر النزاعية, وهل له حقيقة دور في تربية أو تجهيل الحكام أثناء تفاعلهم مع الظواهر الحربية والنزاعية إدارة وأداء, بمعنى محاولة توضيح أهمية الفكر السيكولوجي في تصنيف قادة العالم, ومنه فهم وتفسير مختلف هذه الظواهر للتوصل إلى تصنيف النزاعات ذاتها.- الكتاب: إدارة النزاعات الدولية في التصورات السيكولوجية المتضاربة للحكام- المؤلف: محمد بوعشة- الصفحات: 175- الناشر: دار الهدى، الجزائر- الطبعة: الأولى 2008العامل النفسي وصناعة القراريرى الدكتور بوعشة ضرورة معرفة سلوكيات القادة في علاقاتهم في إطار علم النفس, ويعتبرها لازمة لفهم السياسة الدولية وتفسير ظاهرة الحروب والنزاعات.ويرى أن الجوانب النفسية في حياة الدول وأصحاب القرار لها دورها في أي سياسة في السلم أو الحرب, لأن الظواهر المرضية النفسية تتعدد وتتداخل بحيث توظف للتحكم والتأثير في السلوك البشري.فالعامل السيكولوجي في النزاعات الدولية خصوصا والسياسة الخارجية عموما, لا يقتصر فقط على الجانب الدبلوماسي والاقتصادي والجغرافي والعسكري، وإنما يتعداه ليمس مجالات أخرى ذات علاقة برجل الدولة.لهذا من الصعب على صانع السياسة الخارجية والمتعامل مع الظواهر النزاعية الاستغناء عن العامل السيكولوجي عند تحركه في الساحة الدولية لتحقيق أهداف تلك السياسة, خاصة أن طبيعة السياسة الخارجية تدفعه دائما باتجاه إعطاء أهمية لعلم النفس أثناء الحروب, وذلك لمحاربة العدو نفسيا عبر وسائل الإعلام والدعاية والتمويه لتحطيم معنوياته.وقبل ذلك فإن العامل النفسي يحتل أهمية بالغة في إعداد وتوجيه القوات المسلحة توجيها معنويا عاليا لضمان تماسكها وتحصينها نفسيا أمام أي حرب نفسية مضادة.ويجزم المؤلف أن هذا العصر -وإن كان عصر الذرّة والأقمار الصناعية- هو أيضا عصر علم النفس الذي يسمح بمعرفة نفسية أو شخصية أصحاب القرار عبر العالم, وتحديد الدوافع والعواطف والميول والرغبات التي تؤثر فيهم وتطغى على سلوكياتهم أثناء تصريفهم لشؤون بلادهم وللشؤون الدولية، كما يمكن من قياس القدرات العقلية للحكام وذكائهم ومظاهر القوة والضعف في شخصيتهم: أهي شخصية متوازنة أم لا؟ أتعاني من أمراض نفسية أم لا؟ وما إلى ذلك.وهذا يساعد الحاكم ذاته في تسيير ملفاته، وتفهم نفسيات ومشاعر وسلوك الآخرين من قادة الدول عبر العالم، فيقيد نفسه ويوسع أفقه وثقافته النفسية، ويزيد من قدرته على المناقشة العلمية الواعية للأفكار والقضايا والمشكلات النفسية الخاصة بالفرد والمجتمع والدولة.لذلك يؤكد المؤلف أن نمط التربية والتعليم الذي يتلقاه الحاكم ومختلف التجارب النزاعية في مساره المهني وطبيعة الرعاية الطبية ولاسيما النفسية منها، وطريقة توصيله المعلومة ومدى استعداده للاستماع للآخر، ونوع ردود أفعاله النفسية والفسيولوجية لدى اصطدامه بمختلف الظواهر النزاعية وغيرها، وفصاحة لسانه من عدمها وقت معالجة هذه الظواهر، ومقارنة القدرات الفردية للحكام عند اصطدامهم بشأن هذه الظاهرة النزاعية أو تلك، ومدى إشراكهم للمستشارين وأصحاب القرار في إدارة تلك الاصطدامات.. مسائل تساعد على تفهم الظاهرة النزاعية والتحكم فيها."هناك شخصيات يصعب فهمها عبر توظيف العوامل الموضوعية وحدها نظرا للتنوع غير المحدود للشخصيات البشرية, فما بالك برجل السياسة صاحب المسؤوليات الهامة والثقيلة" غير أن المؤلف يعترف بأن هناك شخصيات يصعب فهمها عبر توظيف العوامل الموضوعية وحدها نظرا للتنوع غير المحدود للشخصيات البشرية, فما بالك برجل السياسة صاحب المسؤوليات الهامة والثقيلة.ومن ثم فإن التنبؤ الأكيد بشأن الخطوات التي سيقدم عليها الحاكم يبدو صعبا وأحيانا مستحيلا, والمفاجئ أحيانا عند محاولة فهم دور العوامل المؤثرة في رجل الدولة بشأن موقف ما, يتبين أنها من الضآلة والبساطة في التأثير, وأن مزاج رجل الدولة هذا قد يكون العامل الجوهري لفهم ذلك الموقف, كما هي الحال لدى الرئيس المصري أنور السادات في قرار زيارته إسرائيل, ولدى الرئيس العراقي صدام حسين أثناء أزمة الكويت.والمزاجية ليس لها حدود, فهي تتحرك على مستوى الدول المتخلفة والمتقدمة, لدى المثقفين وغير المثقفين, كما هو حال الرئيس بوش اليوم, يرفض أي تنازل بشأن الوضع في العراق رغم المعارضة الشديدة, ربما لأنه يعي أن التنازل يعني انهيار سياسته كشخص.وهذا يؤكد أن في الموضوع نبرات شخصية تحركه وتسيطر عليه كحب البقاء في السلطة والتظاهر بالقوة والجاه والتماسك النفسي, في حين أن الاهتزاز السيكولوجي والخوف من الفشل يسيطران في البيت الأبيض وعلى مستوى الدوائر الصناعية والنفطية والحربية المرتبطة بالفضاء العراقي.ومن هنا يستخلص المؤلف أن القلق السياسي من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا, وهو يظهر بأشكال عديدة ومتنوعة يصعب حصرها، مثل: الخوف والتوتر وضبابية التوقعات والخوف من المستقبل والصراع النفسي بين الطموحات والقيود والإحساس بالانقباض والانغلاق على النفس وعدم الارتياح والطمأنينة..لهذا ينبغي تناول هذه المواضيع في صلتها بإدارة النزاعات وقضايا العالم عموما لدى الحكام لمعرفة دورها في الإدارة أو في التصورات اللاحقة لعملية الإدارة, ما يسهل دراسة إشكالية دور القيادة في صنع وإدارة الظواهر النزاعية اعتمادا على العامل السيكولوجي.نظرة الحكام للعالم ونزاعاتهيرى الدكتور محمد بوعشة أن التركيز على كيفية نظرة الحاكم إلى محيطه النزاعي وغيره موجود في مركز المدخل السيكولوجي، وعندما تحدد هذه الكيفية لدى حكام العالم تنبثق منها حالات عديدة لابد من إخضاعها وتصنيفها في طرق ونماذج بغرض مقارنتها فيما بينها والتحكم فيها، ومن ثم دراسة وفهم دور الحكام في النزاعات الدولية.وقد اجتهد المؤلف في دراسة العديد من التصنيفات الموجودة ومنها:- القائد الأزموي، وهو الذي يجد نفسه أثناء الأزمات ويتفاعل معها ويمكن أن يحقق بعض المكاسب في ظلها، بينما لو كان هناك أمر آخر يمكن أن يحصل العكس في تصرفاته، وقد يرجع هذا إلى التنشئة التي ترعرع في ظلالها وهو صغير، كأن يكون قد عاش في جو عائلي دائم التوتر والاضطراب.- القائد المبتكر، وهو الذي يجتهد باستمرار من أجل تجديد أسلوب الحكم باعتبار أنه يصعب عليه الاستمرار في أداء وظيفة روتينية، وقد يأتي هذا بإيجابيات في تسيير شؤون بلاده ولكن قد يؤدي هذا الحرص على التجديد إلى التضحية أحيانا بسياسات ونماذج ناجحة، فيترتب عنها فقدان التوازن على مستوى الحكم والمجتمع وقد يؤدي إلى فوضى وربما أزمات وحرب.- القائد الحكيم، وهو الذي لا يتسرع عند اتخاذ القرارات، كما أنه يدرس مختلف الخيارات بمفرده وبإشراك مساعديه، مخضعا بذلك تصرفاته لمبدأ الحكمة والرشاد.- الحاكم المشاور، وهو الذي يشرك الآخرين معه في الحوار والمسؤولية واتخاذ القرارات، ومن الصعب أن يتخذ بمفرده قرارا لأنه تربى على منهج إشراك الآخرين."جذور الحروب تعود إلى أعماق النفس البشرية الخفية ذات البعد العدواني، وهو أمر يتم بعيدا عن العقل وبالتالي فهو لا يخضع للسيطرة وليس في متناول التحليل العلمي" والعديد من الحكام يعتمدون هذه الطريقة باعتبارها تخدم مصالح بلادهم أكثر، وهو أمر يلاحظ في الدول المتقدمة لاسيما على صعيد الشؤون الداخلية، خلافا لغالبية دول العالم الثالث.- الحاكم البيرقراطي، وهو الذي لا يريد الدخول في مغامرات، وقد تراه يأخذ وقتا أكثر من اللازم لدراسة قرار ما، وقد يتخذه ويبقى في الدرج بسبب الخوف الذي يخيم عليه. وهو لا يحبذ التغيير، فكل حالة تتطلب عنده عملية خاصة لاتخاذ القرار، وقد يتطلب هذا وقتا ومشاورات وتريثا، لذلك قد تتضرر مصالح بلاده التي تتطلب أحيانا البت السريع في بعض القضايا التي تواجهها.وفي الحقيقة يثبت المؤلف في دراسته أن هناك تداخلا بين هذه التصنيفات لفهم شخصية الحاكم وأسلوبه في العمل ودرجة تفاعلاته، وأنها تلتقي في بعض التسميات وبمحتوى مختلف، مرجعا هذا التباين إلى النظرة المختلفة التي يرى بها أصحاب هذه التصنيفات.السيكولوجيا مرآة لسيرة الحكامركزت الدراسات الحديثة على سيكولوجية القادة في إدارتهم للشؤون العامة إلى درجة اعتبارها عصب الانتصار في المعركة، ويستشهد المؤلف بتراجع الجنود الأميركيين في العراق رغم المال والسلاح.وسبب ذلك -حسب رأيه- ضعف السيكولوجية لديهم لأنهم يعتبرون أنهم يحاربون من أجل قضية تهم بوش وحده, وهو ما أدى بالبعض إلى رفض الخدمة في العراق، وعبرت عنه مؤسسات رسمية أميركية عديدة فضلا عن أغلبية الشعب الأميركي، بل بلغ الأمر حد اعتبار أن بوش يحمل أفكار أزمنة ماضية وبالتالي فهو يعاني ازدواجية واضطرابا في الشخصية.وهكذا يعتقد المؤلف بأن الحروب نتاج خبيث لأحد العباقرة الأشرار، وعلى هذا الأساس يبني علم الاجتماع السيكولوجي نظرية العنف، حيث يرى أن جذور الحروب تعود إلى أعماق النفس البشرية الخفية ذات البعد العدواني، وهو أمر يتم بعيدا عن العقل وبالتالي فهو لا يخضع للسيطرة وليس في متناول التحليل العلمي.لذلك حاول الكثير من أهل الاختصاص فهم العلاقات الدولية عبر دراسة تدخل الحكام في الظواهر الدولية للتمييز بين أنماط مختلفة من حكام العالم يمكن من خلالها حصر الحكام بين معتدل وميال للعنف أو السلم، ومنطوٍ على الذات أو متفتح.. وهكذا."النفس البشرية يصعب اعتبارها وحدَها مصدرا للنزاعات والحروب، بل إن السياسة العامة المتبعة هي التي تجعل من هذه أو تلك شعوبا تواقة للسلام، وأخرى ميالة للحرب" ومن ثم يتم تفسير طبيعة أنظمتهم ومواقفهم في الداخل والخارج، فتتضح صورة التضارب الحاصل في تصور القادة لذواتهم ومجتمعاتهم، ويصبح الأمر أكثر أهمية وخطورة عندما يمتزج العامل السيكولوجي بالأمراض الجسمانية لدى القادة وعلاقة ذلك بتصريف شؤون الدولة، لاسيما الضعيفة منها.وعموما يلاحظ المؤلف نوعين من الأوضاع: أولها يولد في الإنسان الشعور بالعظمة والكبرياء، والثاني يولد فيه الخضوع والتبعية، وهو ما قد يؤدي إلى أن يصبح القادة الذين يعانون من هذه الأمراض ألعوبة في يد بعض مساعديهم أو أفراد من عائلاتهم كما كان الشأن في السنوات الأخيرة من حياة الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة.فالدراسة الجدية لابد أن تعتني بجميع الفواعل التي تفعل فعلها في توجيه سلوكيات الحكام، ومن أهمها الخلفية الأسرية والمركز الاجتماعي والاقتصادي والاستعدادات الذهنية والفكرية، والديانة ومدى الالتزام بها في صلتها بالتصورات الخاصة بالديانات الأخرى، وطبيعة المرحلة والأسباب التي أدت بالحاكم إلى تسلم مقاليد الحكم دون سواه، والسن والذكاء وتجارب الفشل والنجاح وما إلى ذلك.بيد أن السرية التامة المحيطة بأحوال الحكام -في نظر المؤلف- تقف عائقا أمام الدراسة الجدية للموضوع، فحتى الأمراض البدنية للقادة تحاط بالسرية خوفا من أن توظفها المعارضة والمخابرات الأجنبية في زعزعة الرأي العام والتوجهات الكبرى للدولة.والأمثلة كثيرة منها ما كان من أمر الرئيسين الجزائري هواري بومدين والفرنسي فرانسوا ميتران والملك المغربي الحسن الثاني وغيرهم.أما الأمراض السيكولوجية فتحفظ بيد من حديد بسبب التفسيرات التي قد تعطى لها والتي يمكن أن توظفها قوى أهلية وخارجية للنيل من الدولة.في خاتمة الكتاب يخلص المؤلف إلى أن النفس البشرية يصعب اعتبارها وحدَها مصدرا للنزاعات والحروب، بل إن السياسة العدوانية للدول تعد في الغالب مصدرا لتهييج الناس، كما أن العلاقات الاجتماعية تؤدي دورها في تحويل الناس من موقع إلى آخر، فضلا عن أن السياسات العامة المتبعة هي التي تجعل من هذه أو تلك شعوبا تواقة للسلام، وأخرى ميالة للحرب.المصدر: الجزيرة
__________________
0 Response to "إدارة النزاعات الدولية في التصورات السيكولوجية المتضاربة للحكام"
إرسال تعليق