التطور المادي وأثره على سلوك الأفراد

مرسلة بواسطة نواف الحربي.. On 7:32 ص

المتتبع للحياة الاجتماعية في الماضي أو عاش فترة فيها سواء كانت طفولة أو شباباً، يجد أن تلك الفترة جميلة ببساطتها ويهرب الكثير هذه الأيام بذاكرتهم إليها لعلهم يجدون بعضاً من الراحة من حياة صاخبة الصراع بها على أشده من أجل المادة وكماليات الحياة التي أصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهل رب الأسرة وتزداد يوماً بعد يوم حتى أصبح الفرد هذه الأيام قلقاً متوتراً قد لا ينام نوماً هادئاً وذلك بسبب تفكيره المستمر في رفع مستواه المادي أسوة بأقاربه وأصدقائه وأصبح شغله الشاغل هو هذا الأمر ولم يكترث للعلاقات الاجتماعية التي ضاعت في خضم هذه المتطلبات المادية.
يجد المرء متعة ذكريات جميلة عندما يذكر الماضي ويحن إليه بما فيه من تكافل اجتماعي وترابط نفتقده هذه الأيام. كانت الأسرة الكبيرة - وأعني بها الوالدين وأولادهما وأحفادهما - تقيم في منزل واحد. وكان أفراد الأسرة متعاونين ومتكاتفين ومتطلباتهم بسيطة، يعيشون حسب وضعهم المادي ولا يتذمرون ويسخطون من هذا الوضع بل يظلون مكيفين أنفسهم عليه ويشعرون براحة رغم ضيق المكان، وينام جميع الأولاد في غرفة واحدة وكذلك البنات. وتتمثل وسيلة الترفيه بالنسبة للأطفال في اللعب في الشارع وهي متعة بالنسبة للأطفال بنين وبنات ، فالأولاد يمارسون هوايتهم باللعب بالكرة مع أترابهم في الشارع كذلك البنات يلعبن في ألعابهن التي صنعتها والدتهن وهي عبارة عن عرائس من قماش محشي بالقطن يفرحن بهذه العرائس وكأنها لعبة غالية الثمن يحافظن عليها فترة من الزمن إلى أن تتمزق.
الليل يبدأ بالنسبة لهم من بعد الغروب حيث يعود الأطفال إلى منازلهم بعد أن قضوا وقتاً ممتعاً في الشارع كذلك الأولاد الكبار يعودون إلى منازلهم لمذاكرة دروسهم وواجباتهم المدرسية وبعد صلاة العشاء تجتمع الأسرة كلها لتناول طعام العشاء ومن ثم يتفرقون كل حسب رغبته، البعض يشاهد التلفاز وكان التلفاز في بدايته يبث برامج بسيطة ويغلق مبكراً.
أما البعض الآخر فيحبذ حكايات جدته إن كانت موجودة أو والدته وعند العاشرة تقريباً يذهب الكل إلى النوم. وتتوالى الأيام على هذه الوتيرة، حياة بسيطة بكل ما تحويه من معنى. وأجمل ما فيها هي العلاقات الاجتماعية وما تحويه من قوة وترابط، تبدأ في الأسرة الكبيرة والأسر الصغيرة ومن ثم الأقارب. وتنتهي في الحي حيث التكافل الاجتماعي الذي يتمثل في ترابط وتعاون سكانه وكأنهم أسرة واحدة وبذلك يجسدون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً».
وتدور الأيام دورتها ويأتي العصر الحديث بما فيه من تطورات سريعة وهائلة شملت جميع مرافق الحياة. وفي تلك الفترة التي ظهرت فيها الطفرة الاقتصادية وتحسن الوضع المادي للكثير من الأسر بل أصبح بعضهم من أملاك الملايين.
ومن تلك الفترة بدأ التغير الكبير في العلاقات الاجتماعية حيث بدأ التفكك الأسري الذي يشمل الأسر الكبيرة والأسرة الصغيرة وأصبح الشاب بعد زواجه يصر على الخروج من منزل والديه وإن كان هذا المنزل كبيراً جداً، وقد يكون قصراً إلا أن الشاب بدأ يطلب الاستقلالية عن أسرته. وأصبح استقلال الشاب المتزوج عن أهله شيئاً طبيعياً. بعد ما كان يعيش في منزل صغير مع أسرته حيث يعمل دائماً على رضاهم ومساعدتهم في حياتهم المادية.
ويأتي هذا العصر وما يحتويه من تطورات تكنولوجية بدأت بالستلايت ثم الانترنت. أما الجوالات فحدث ولا حرج، فهنالك أسواق خاصة للجوالات كل شهر تخرج أشكال عدة ليتنافس عليها العامة. وأصبح الجوال شيئاً أساسياً وانتشر بين الناس حتى شمل الشباب والأطفال منهم.
وزاد الأمر سواء بظهور جوالات الكاميرا والبلوتوث حيث ظهرت مشاكل عدة بأسبابها.
إن لهذه التطورات الحديثة في التكنولوجيا والتي شملت مجتمعنا وهو وجزء من المجتمع العالمي، آثارها السلبية في زيادة التفكك في العلاقات الاجتماعية، حيث أصبح الأفراد في الحي الواحد لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يرغبون بالتعرف على جيرانهم. لدرجة أنه يأتي العيد وهو عيد الله للمسلمين لكي يتقاربوا في تلك الأيام إلا أن معظم الأحياء في أيام العيد لا يزورون بعضهم بعضاً ويكتفون بزيارة الأهل فقط، أما الأقارب فيكتفون بالمعايدة بالجوال وقد يكتفون بارسال رسائل معايدة.
أما في الفترة الحالية التي نعيشها أتى أمر قضى على القليل من الترابط الاجتماعي الذي كان موجوداً عند البعض.
هذا الأمر هو الأسهم وما جرته علينا من صراع بين الأفراد وكذلك صراع في الأسرة الواحدة من أجل الحصول على أرباح هائلة في فترة قصيرة. وانشغلت الأم والأب بهذا المجال وتركا تربية أبنائهما الصغار على العاملات، أما الكبار فكانوا أحراراً يعملون ما بدا لهم دون رقيب ومرة فترة فرح بها المساهمون بهذه الأرباح بعدها أتت الكارثة التي راح ضحيتها الكثير من ضعاف النفوس بسبب خسارتهم الفادحة، وكثرت الحالات النفسية من جراء ذلك الأمر. واكتظت العيادات النفسية بالمراجعين.
فأي حياة نعيشها الآن في خضم الصراعات المادية والتي انهكت أنفسنا وأطاحت بنا لدرجة أن الكثير يشعرون بالضيق والقلق رغم أنهم في عيش رغيد ورفاهية تامة.
أين نحن من الأيام الماضية حيث الطمأنينة وراحة النفس والقناعة بما قسمه الله لنا. وانعكس ذلك على سلوكيات الأفراد في تلك الفترة حيث سادت المحبة والتعاون في ما بينهم مطبقين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
أنا لست ضد التقدم الحضاري أو السعي لزيادة الدخل وتحسين الوضع المادي على أن لا يؤثر ذلك على قيمنا ومبادئنا التي رسمها لنا ديننا الحنيف وبينتها لنا سنة نبينا الكريم والتي إن تمسكنا بها لن نضل أبداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

منيرة بنت محمد الدخيل "اخصائية اجتماعية في مستشفى الملك خالد الجامعي"

Category :

0 Response to "التطور المادي وأثره على سلوك الأفراد"

إرسال تعليق