نظام الحياة المدنية في المجتمع الاسلامي

مرسلة بواسطة نواف الحربي.. On 7:32 ص

عند التأمل في نظام الحياة المدنية للمجتمعات الإسلامية خلال هذه الحقبة الزمنية ، وخصوصاً في المفاهيم الأساسية المصاغة لفكرة ( تهذيب ) السلوكيات والتصرفات الإنسانية لأفراد المجتمع عبر جميع الأصعدة الأخلاقية والدينية والاجتماعية والمدنية وعلاقة الإنسان بغيره ؛ وفرضية بناء مجتمع إسلامي فريد في أصالته ومعاصرته يتميز بإشباع حاجات الشغف الروحي للمسلمين مع امتزاجه باستحقاقات العصر الحديث . يثار في ذهني سؤالاً أجد محيراً _ نوعاً ما _ يلقي بعواهنه الفكرية المتناقضة في مفاهيم الأولويات ، ويدور في فلك نظرية البناء والتأسيس للشعوب والمجتمعات الإنسانية ، وفي صياغة رؤى عامة تنبثق منها تصورات ذلك المجتمع وأنماط سلوكيات أفراده في حياتهم المدنية .. فيتمخض ذلك السؤال في انصراف الاهتمام بالبناء كناحية أولوية .. أهي : لبناء المجتمع ككيان عام ؟! أم لبناء أفراده ؟!ومن خلال الاستعراض لثنايا وسجلات التاريخ ، نجد أن هناك محاولات حثيثة لإيجاد مجتمع ( مثالي ) في أبجدياته الروحية والأخلاقية ، كما نهج ذلك الفيلسوف الأغريقي أفلاطون حينما ابتدع ( مدينة فاضلة )
قسم المواطنين فيها إلى ثلاثة أقسام متمايزة : الملوك الفلاسفة ، والعسكر ، والعامة من تجار وصنّاع وزرّاع ... وجعله تقسيماً قائماً على التمايز في القدرات الطبيعية بين الأفراد ، وجعل من الطبقتين الأوليتين ( الملوك الفلاسفة والعسكر ) حراساً للدولة ، وأوصياء عليها.. بينما حرم العامة _ التي تشكل الأغلبية _ من أي حق فكري أو سياسي ممارس ؛ أما الأقلية _ النخبة _ فهي التي تسيطر وتوجه وتتحكم ، وما على الأغلبية إلا الطاعة والخضوع ؛ وحتى إذا حاولت الفعل فإنها ستجد نفسها محاطة بقيود السيطرة التي تفرضها عليها النخبة !! ويعتبر افلاطون (427 - 347 ق.م) أول من وضع نظاما سياسيا فلسفيا صاغه في الجمهورية وفي النواميس لاحقا ، إذ حسب تصوره أن المشكلة الفلسفية الحقيقية إنما هي مشكلة سياسية تقع في صميم المجتمع وحياته المدنية التي تحتاج إلى إعادة بناء جذري بغية قيام نظام مثالي . قد لا تكون ( مدينة أفلاطون ) معبرة عن واقع موضوعي ، بل هي غالباً ما تمثل موقفاً ذاتياً .. ولست هنا بصدد تفكيك النظرية ونقاش سلبيتها أو إيجابيتها بمقدار ما أنا بصدده من فرضية محاولة إيجاد مجتمع يكون أقرب للمثل العليا _ حسب التصورات الذاتية _ من طبيعة الإنسان . وقد نهج هذا المنحنى الفكري في الحياة المدنية لمحاولة إيجاد مجتمع مثالي ؛ أبو نصر محمد الفارابي الذي يعد المعلم الثاني للفكر الفلسفي بعد أرسطو ، فانه أول فيلسوف في الإسلام اتبع هذا النهج الأفلاطوني في آراء أهل المدينة الفاضلة وكذلك في السياسة المدنية . وبنظرة سريعة في واقع مجتمعنا _ المعاصر _ نجد أن الأرضية الثقافية في البناء والتنظير ( لتهذيب ) سلوكيات الأفراد ترتكز بشكل مباشر على مبدأ ( الوقاية ) دون ( البصيرة ) في علاج مظاهر التفسخ والفساد والانحلال الأخلاقي والاجتماعي ، ومحاولة إغراق المجتمع في سلسلة من القيود الدينية والاجتماعية ، وإرغامهم على تبني نماذج جاهزة ومقننه حسب سياسات الدولة واحتياجاتها ، والارتكاز على قاعدة ( الموروثات الثقافية ) من عادات وتقاليد مستسقاة من الماضي ، وربما لا تناسب معطيات العصر الحديث ، وإسقاطها كمعيار أساسي لتقييم تصرفات أفراد المجتمع ، وتمييز الصحيح من الفاسد . إن المشكلة الأساسية في هذا الميدان ؛ تكمن في الإستماته لإيجاد مجتمع ( ملائكي ) ذو صبغة إسلامية فريدة ، واستخدام وسائل ( التعتيم ) الإعلامي مع تسيسها بالمبادئ القَبَلِيةَ والضغوط الاجتماعية لكسر شوكة ( التمرد ) على الأخلاقيات المجتمعية ؛ لإرضاء فئات معينة ، ولكي لا يخسر المجتمع تلك الصبغة الإسلامية كما جاهد في رسمها بريشة فنان مبدع في عيون الآخرين من المجتمعات الأخرى . وكان من نتيجة هذا الزخم التربوي في ميادين السلوك ، أن أوجد فئات بشرية تعتقد أن معايير استخدام الأخلاق يختص ( ببقعة معينة ) تنتمي له ، بسبب الرقابة الدينية والاجتماعية ، وأن مجرد تجاوز حدود هذه ( البقعة ) يتيح للإنسان أن ينسلخ من جميع سلوكياته البشرية ، وأن له مطلق الحرية في ممارسة ما شاء ، وكيفما شاء ، ما دام أنه استطاع الإفلات من مقص الرقيب . إن غياب ( الوعي ) التربوي لتهذيب السلوك ، وانحصار الاهتمام لبناء مجتمع يحمل خلفية ثقافية معينة ، قد يفرز سلبيات خطيرة على مستوى ( قناعات ) أفراد المجتمع بأهمية مراعاة الجوانب السلوكية لتصرفاتهم ، وانتشار سياسة ( القمع ) الديني والاجتماعي دون مراعاة الجوانـب ( التبصيرية ) قد يكون له إفرازاته الوخيمة مع تراكمات الزمن ، وربما يعصف بأفراد المجتمع إلى حالة من الازدواجية النفسية في ممارسة تلك السلوكيات واعتقادهم بعدم جدواها أو بالأحرى عدم الاهتمام بها . والمتأمل في بناء المجتمع الإسلامي الأول يجد أنه استلهم صورته الناصعة بالبياض ، حينما كان الاهتمام القيادي من النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ببنــاء الشخصيات الإسلامية ، مع تدعيمها بشكل مباشر بالقناعات العقلية لمحاربة طوفان السلوكيات الناتجة من إفرازات الجاهلية ، وإرساء الأسس السلوكية الإسلامية في حياة الأفراد قبل الاهتمام ببناء منظومة مجتمعية ، إذ أن البناء المجتمعي السليم لا يتم إلا على ركائز متينة من سلوكيات أفراده . إن محاولة ( غرس ) القيم السلوكية في نفوس أفراد المجتمع ، لا تتم عبر سياسة الإلزام الديني والاجتماعي ، بل لابد من إيصال تلك القيم بقالب الإقناع العقلي ، حتى تنتقل من كونها ممارسة سلوكية غير مستساغة إلى نمط سلوكي يومي وحاجة بشرية ملحة . ولذلك من البديهي جداً أن تتبلور تلك الثقافة البنائية الحالية ، وينتج من جرائها أن تصبح مكانة ( الأرض ) الإسلامية وتخليصها من أدران التبعية الاستعمارية ، وإطلاق ثقافة الشعارت القومية والمبادرات العربية هي الهاجس الحقيقي والمحك الأساسي لتفكير المسلمين ، بغض النظر عن مكانة ( الفرد ) المسلم ، ومحاولة بنائه روحياً ودينياً وثقافياً ، وتنمية مهاراته الإنسانية وتهذيب أخلاقه وصقل إمكانياته الفكرية ، وإنتاج فرد مسلم نابض بالحياة يتجاوب مع الآخرين بعطاء لا حدود له . وكم شاهدنا من عمليات ( لتحرير ) بقاع إسلامية ، ولم نشاهد ذاك ( التحرير ) للعقول الإسلامية في تلك البقاع من الممارسات السلوكية والاستعمارية السيئة .

Category :

0 Response to "نظام الحياة المدنية في المجتمع الاسلامي"

إرسال تعليق